الأربعاء، 13 يناير 2016

لماذا المحاسبة علم إجتماعي ؟

(سلسلة المقالات العلمية ) - المقالة رقم 6

لماذا المحاسبة علم إجتماعي ؟
(الطبيعة العلمية للمحاسبـــــة)  

عماد خليفة إدريس
نعم المحاسبة علم اجتماعي ! إنه ليس رأيي الشخصي ، أو من ضمن استنتاجاتي ، وإنما هو حقيقة علمية دامغة ولا غبار عليها . فكيف يمكن للمحاسبة ان تكون من ضمن العلوم الاجتماعية  رغم ما يعتقده العامة ، بل وكثير من المختصين في العلوم المحاسبية أنه من غير المنطقى أن تصنف المحاسبة كأحد العلوم الاجتماعية ؟ لنفهم الموضوع ونحسم الخلاف دعونا نبدأ من تصنيفات العلوم بشكل عام . 


التصنيفات القديمة للعلوم 
صنف أفلاطون العلوم بشكل عام الي ثلاثة فروع أساسية ،الفرع الأول هو العلوم الطبيعية وتشمل علم الحيوان والنبات و الصناعة ، والفرع الثاني هو علوم الرياضيات وتشمل الرياضيات وعلوم العقل ، أما الفرع الثالث والأخير فهو العلوم الإلهية وتتمثل في علوم القيم العليا والمنطق والاخلاق والمعرفة اليقينية ويقصد بها  المعارف التي لا تناقش ويتم قبولها كما هي . أما  ابن خلدون فقد صنف العلوم تصنيفا ثنائيا يتمثل في :
  • العلوم الطبيعية : وهي العلوم الحِكَمية الفلسفية ، أي تلك التي يمكن للإنسان أن يقف عليها بفكره ، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها ، وأنحاء براهينها ، ووجوه تعليمها ، حتى يصل إلى التمييز بعد النظر والبحث ، ومنها يتبين الخطأ والصواب 
  • العلوم النقلية الوضعية : المستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي ، وهذه لا مجال للعقل فيها ، إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول . 


التصنيف الحديث للعلوم 
رينيه ديكارت
يرى أبو الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت  أن العلوم مثل شجرة جذورها الفلسفة وساقها العلوم الطبيعية ، اما الفروع فتمثل باقي العلوم . وقد مر تصنيف العلوم بعدة مراحل ليصل في شكله الحالي الى التصنيف التالي
  • العلوم الاجتماعية : وتشمل علم الاجتماع ، علم النفس ، علم الاقتصاد ، علم السياسية و علم الانسان .
  • العلوم الانسانية : وتشمل اللغات ، الفنون ، الديانات والفلسفة .
  • العلوم التطبيقية : وتشمل الرياضيات ، الهندسة ، الفلك و الطب .
  • العلوم الطبيعية : وتشمل الكيمياء ، الفيزياء و الأحياء .

و يظهر تصنيف علم الاقتصاد والذي تعتبر المحاسبة أحد فروعه ضمن العلوم الاجتماعية ، فكيف ينطبق هذا التصنيف على طبيعة علم المحاسبة ؟ وكيف يمكن اعتبار علم المحاسبة – و الذي يراه الكثير على أنه علم جامد و ثابت و مستقر – علما اجتماعيا ؟ 

العلوم الاجتماعية و علم المحاسبة
العلوم الاجتماعية بشكل عام هي تلك العلوم التي تعنى بتفسير طبيعة العلاقات بين البشر وعلاقاتهم مع بيئتهم المحيطة بهم ، ولعل لها من اسمها نصيبا فهى لم تسمى بالعلوم الاجتماعية الا لأن السبب الرئيسي لنشأتها هو وجود مجتمع يعيش فيه البشر مع بعض ، فلو لم تكن هناك مجتمعات فإن هذه العلوم لن تنشأ أساسا ، فلن يكون هناك اقتصاد ولا سياسة مثلا، ولكن سواء كان هناك بشرأم لا فإن التفاعلات الكيمائية تحدث والتغيرات الطبيعية مستمرة فالعلوم الطبيعية والتطبيقية لم يصنعها البشر وإنما قاموا باكتشافها و فهمها ، أما العلوم الاجتماعية فهي علوم ظهرت بسبب البشر وعلاقاتهم المختلفة بين بعضهم البعض ، ومع بيئتهم المحيطة ، وهذا ينطيق تماما على علم المحاسبة ، فلو لم يكن هناك بشر ، ولو لم يكونوا مجتمعا ، لما ظهرت الحاجة الي المحاسبة كأحد فروع علم الاقتصاد .

إن التركيب الكيمائي لجزئ الماء هو ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، إينما وجد ماء صالح للشرب فإن تركيبه الكيمائي لا يتغير سواء كان ذلك في شرق البلاد او غربها أو في دولة اخرى ، بل ولو كان هذا الماء موجودا على سطح المريخ فإنه لكي يكون صالحا للشرب فيجب أن يكون بنفس التركيب ، أي أن النظرية في العلوم الطبيعية والتطبيقية هي نظرية ثابتة ومؤكدة النتائج ولا تتغير ويمكن أيضا تثبيت أحد العناصر لمعرفة تأثير العناصر الأخرى ، بيد أن الأمر ليس كذلك في العلوم الاجتماعية ففي علم النفس والاقتصاد والسياسة تختلف النظريات وتتعارض وتناقض بعضها أحيانا وتفسر بعضها مرة ، وتظل دائما في حالة من عدم التأكد والتنبؤ وتعدد البدائل ، أي انها ليست نظرية متكاملة ، إذ تتغير النتائج بتغير الظروف والبشر والبيئة المحيطة ومن الصعب دراسة تأثير عامل ما مع تثبيت العوامل الأخرى نظرا لطبيعة العلاقات المتشابكة والمعقدة وصعبة التفسير نظرا لارتباطها بالسلوك البشري ، والأمر ينطبق تماما على المحاسبة ، رغم ما توحي به المحاسبة من دقة في استخدام الأرقام و احتساب الأرباح الا انها في حقيقة الأمر ليست دقيقة أبدا ، فأغلب الطرق التي يتم احتساب الأرباح من خلالها و التقييم تعتمد على التقدير الشخصي والتقديرات الفنية وتعدد البدائل التي تعطي نتائج مختلفة تماما ، كما أن المعلومات المحاسبية تستخدم لاتخاذ قرارات مستقبلية من قبل متخذي القرار على الرغم من انها معلومات تاريخية الا أنها تستخدم في التنبؤ و لعلك تلاحظ ان كل ما سبق يرتبط ارتباطا مباشرا بالبشر و سلوكهم .   
لو اخذنا شركة ما أو مصنعا ما وقمنا بإعداد حساباته من خلال محاسبين مختلفين لوجدنا نتائج مختلفة ، ولو اخذنا نفس الشركة أو المصنع وجعلناه في بلدان مختلفة لوجدنا نتائج مختلفة أخرى ، حيث أن بعض القرارات يتم اتخاذها بناء على قوانين وتشريعات مختلفة أو تقديرات مختلفة أو نتبؤات مختلفة في دول بأنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة ، وترتبط جميعها بالبشر وسلوكهم وبالمجتمعات وبيئاتها المختلفة ، كما أن كثير من المعلومات والبيانات المحاسبية تتأثر سلبا وايجابا بالشائعات والحروب والرخاء والكساد والتضخم والبطالة والفساد . بأي حال من الأحوال لا يمكن عزل المحاسبة عن المجتمع لأن المجتمع هو الذي خلقها وهو الذي يشكلها بعكس جزئ الماء الذي تحدثت عنه سابقا فالمجتمع لم يخلقه وانما وجد الماء قبله وربما أعاد الانسان اكتشافه أو استثماره بشكل مختلف ولو فكر يوما ما في صناعة جزئ مياه فلن يكون الا بذرتي هيدروجين وذرة اكسجين . 

المحاسبة و الرياضيات
لعل ما زاد الأمر التباسا أكثر على العامة هو اشتقاق كلمة المحاسبة من الجذر "ح س ب" ، والذي منه تأتي كلمة الحساب ، فتم الربط بينها وبين الرياضيات ولكنها شئ مختلف تماما عن الرياضيات ولا تتفق مع الرياضيات الا في استخدامها قواعد الجمع والطرح والقسمة والضرب ، الأمر تماما كحالنا عندما نستخدم الاساليب الاحصائية في علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد ، إن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذه العلوم أصبحت جزءا من علم الرياضيات . 

لماذا مهنة المحاسبة مملة ؟
المحاسبة فلسفة رائعة وعلم جميل الا أن طرق تدريسه وتقديمه للجمهور وعزله عن البيئة المحيطة به وسلوك الأفراد ومدى تأثيرهم في مخرجات النظام المحاسبي أدى الى قتل الفلسفة الخاصة به وأفقد البيانات و المعلومات المحاسبية مرونتها ، بل وعجز الكثير عن فهم معناها واستخدامها بالشكل الصحيح ، وتحولت المحاسبة الى مجموعة من الاجراءات الروتينية المملة ، وبرغم ما يقال عن أن المحاسبة من أعلى المهن اجورا في المجتمعات الغربية الا أنها أيضا من اكثر المهن كآبة ومللا ، فالمحاسبون يقضون عمرهم في عمل إجراءات لا يفقهون الفلسفة من وراء إعدادها لأنهم لم يدركوا يوما أن المحاسبة أكثر بكثير من مجموعة من القوائم والتقارير المالية التي يقفلون بها حساباتهم في نهاية السنة المالية.